طلبت الولايات المتحدة من مجلس الأمن الدولي الاجتماع غداً لبحث موضوع فنزويلا، وهذا بعد أن رفضت السلطات الفنزويلية دخول قوافل "المساعدات الانسانية" المزعومة أراضي الدولة، إذ تخشى فنزويلا من أن تحتوي هذه المساعدات أسلحة تصل ليد المعارضة المأجورة، وهو خوفٌ في مكانه، خاصة وأن الناطقة بلسان الخارجية الروسية ماريا زاخروفا كانت قد حذرت من أن الولايات المتحدة تنوي إدخال السلاح الى فنزويلا وإيصاله الى يد المعارضة.
ليس هناك فعلاً أوقح من البلطجية الأمريكية، خاصة حينما تتكلم عن المساعدات الإنسانية. حينما تسمع "مساعدات إنسانية" والولايات المتحدة في جملة واحدة لا يسعك الا أن "تضع يدك على قلبك"، وتعرف أن هناك مؤامرة في الأفق. كان ما يسمى "التدخل الإنساني" على مر تاريخ الامبريالية الأمريكية مرادفاً للغزو والدمار. تقوم أمريكا بمحاصرة شعب مثل الشعب الفنزويلي بكل ما تملك من قوة ونفوذ وتعمل على تجويعه بالعقوبات الاقتصادية، ثُم تذرف الدموع وتدّعي القلق على الوضع الإنساني في فنزويلا. بات سيناريو السياسات الأمريكية الخارجية مُملاً لكل مُطلع على التاريخ. تقوم أمريكا بتحديد دولة "مارقة" خارجة عن سرب الهيمنة والخنوع، وبالصدفة تكون أغلبها غنية بالنفط أو لها فائدة إستراتيجية او جيو-سياسية ما، ثم تقوم بكل ما تملك من قوة إعلامية وقوى تابعة بشيطنتها وتفرض عليها حصاراً وحشياً ثُم تبدأ بوضع الأرضية الخصبة للغزو بحجة التدخل الإنساني.
ليس حصار العراق الوحشي عنا ببعيد. في مقابلة تلفزيونية مع عرّابة الحصار على العراق، وزيرة الخارجية الأمريكية في حينه مادلين اولبرايت، تقول لها المذيعة ان "التقديرات تبين أن الحصار قد تسبب بمقتل أكثر من نصف مليون طفل عراقي، وهذا أكثر من الأطفال الذين قُتلوا في هيروشيما، هل برأيك هذا الثمن يستحق؟" فأجابت اولبرايت بكل برود: "نعم أعتقد أنه يستحق" - في أكثر اللحظات الأمريكية الوحشية صدقاً على الهواء مباشرةً. هل لا زال في هذا العالم وفي العصر الذي تتبرع الامبريالية الأمريكية بالكشف عن وجهها البشع على يد ترامب، من يُصدق الهراء الامريكي حول التدخل "الإنساني"؟
لا يُمكن فصل هذا "الانسعار" الأمريكي على فنزويلا عمّا يجري داخل السياسة الداخلية ايضاً، لا يُمكن فصل محاولة تشويه النظام الاشتراكي في فنزويلا وتجند كل وسائل الإعلام الأمريكية لإثبات فشله، أي فشل الاشتراكية كفكرة وربطها بالفقر والجوع في الذهنية الأمريكية؛ وعن رعب النُخب، الجمهورية منها خاصة، من الخطاب الاشتراكي الذي بدأ يتسلل متأخراً الى قبة الكونغرس الأمريكي على لسان المرشح الديموقراطي بيرني ساندرز-مع انه يرطن بالاشتراكية ولا يدين التدخل الأمريكي في فنزويلا مثلاً- وعن الحالة السياسية التي يخلقها إدخال خطاب غريب عن المُعجم الامريكي بعد سنوات من المكارثية المعادية للاشتراكية. حيث يُضطر وفي مشهد غريب عن التاريخ الامريكي، أن يقف ترامب تحت قبة الكونغرس ويحذر "أمريكا لن تكون أبدا دولة اشتراكية"!
ظنت أمريكا انها تخلصت من الاشتراكية نهائياً عام 1991 بانهيار الاتحاد السوڤييتي، وسارعت لإعادة سيطرتها على أوروبا الشرقية وخلق نظام عالمي جديد، نظام أحادي القطب، وسارع منظروها لإعلان نهاية التاريخ وانتصار النيوليبرالية.. حتى أطلت لهم الاشتراكية من جديد من "باحتها الخلفية" في أمريكا اللاتينية. عودة الاشتراكية في فنزويلا على يد تشافيز ثم مادورو، وفي البرازيل لولا دا سيلفا، الذي استطاعت بواسطة عملائها سجنه بتلفيق تُهم الفساد لتستجلب حليفها النازي الى سدة الحكم، وفي الإكوادور على يد رافاييل كوريا، وفي الأرجنتين على يد كريستينا هرنانديز وزوجها. لذلك هي تنسعر الآن على فنزويلا ونظامها الاشتراكي وتحاول إعادة سيطرتها الكاملة على القارة الثائرة.
الكلب الأمريكي المسعور لم يفهم بعد أنّ زمن التعامل مع القارة اللاتينية كباحة خلفية للولايات المتحدة، وفق مبدأ مونرو الشهير، تكون فيها الإدارة الأمريكية الآمر الناهي، تسحب الشرعية مِن مَن تشاء وتعطيها من تشاء، هو زمن قد ولى الى غير رجعة، ولو سقط البعض مجدداً.
الزعيم نيكولاس مادورو يملك قوة الفقراء وأبناء بيوت الصفيح الذين لن يتخلوا عن المنجزات الاجتماعية التي حققوها بالثورة البوليفاري، متسلحين بالروح الثورية التي أورثها الزعيم الراحل تشافيز. سوف يتصدون للمؤامرة ويدوسون رأس الأمريكي وعملاءه من النُخب السياسية والاقتصادية المُرتهنة.
إذا كانت مشكلة الأمريكي ومنظريه أن فنزويلا تفتقر للديمقراطية، مع أن رئيسها مادورو منتخب ديمقراطياً من الشعب الفنزويلي، فيمكننا القول إن مشكلتنا نحن مع النظام الفنزويلي، أي نقطة ضعفه الرئيسية هي ديمقراطيته، أي التزامه باللعبة الديمقراطية البرجوازية الموهومة التي ينفذ من خلالها عملاء الولايات المتحدة. هناك نُخب اقتصادية عميلة داخل فنزويلا لا تحاول إخفاء ارتباطها بالسياسة الأمريكية وتساهم بشكل مباشر في تجويع الشعب الفنزويلي وزيادة التضخم المالي واحتكار مواد تموبنبة أساسية ومنعها عن الشعب مساهمةً في زيادة صعوبة الحصار الأمريكي. وهي مرتبطة بنخب سياسية عميلة هي الاخرى مثل قائد المعارضة المزعوم خوان غوايدو. منذ أن وصل تشافيز الى الحكم ومن بعده مادورو أصروا على التعامل مع المذكورين على أنهم جزء شرعي من السياسة الفنزويلية ومواجهتهم بواسطة القنوات الديمقراطية "الشرعية" مع أنهم مستعدون لإحراق البلاد من أجل المصالح الأمريكية.
لقد حان الوقت أخيراً للقضاء عليهم وتصفيتهم نهائياً والآن هي الفرصة الأنسب لذلك. اما الديمقراطية بمعناها البرجوازي "الأمريكي" التي لم تشفع سابقاً للزعيم الشهيد سلفادور اللندي في تشيلي في منع عملاء امريكا في الانقلاب عليه وتصفية نظامه بدعم من السي اي ايه، فلن تشفع لمادورو اليوم. لتذهب طغمة أمريكا وديمقراطيتها إلى الجحيم. ولتقل كراكاس كلمتها: الوطن والاشتراكية والنصر أو الموت.
إضافة تعقيب